الاثنين، 12 مارس 2012

ثورة موتى... أحمد خطاب


... قراءة في رواية "ثورة الموتى" لـ أحمد خطاب...
تجذبنا كلمة "ثورة" لأول وهلة، لتفزعنا بعدها كلمة "موتى"، وتبقينا الجملة مكتملة – "ثورة الموتى" – في شرود نتفكر في ذلك العنوان المثير لرواية (أحمد خطاب) الجديدة!
حين اختار الكاتب ذلك الجزء الحواري - لتنقشه ريشة مصمم الغلاف (محمد كامل) على خلفية الرواية - أحسبه كان متعمداً أن يطرق أبواب الفضول فينا لكي نحاول إدراك كيفية تحرك يد ما خلف جدار ما في تلك المقبرة، وكأنما نتقدم -  خلف (عمر) و(ندا) بداخلها -  نبدأ القراءة!
"تتصادم السحب فتجرح سحابة أخرى، فتسيل منها صاعقة برق خاطف بنوره المضيء في هذا الليل المدلهم، وتزأر برعد كوحش كاسر جريح صوته مهيب. ".. تعبير رائع أول ما صادفني مع بداية القراءة، ووجدته تصويراً مناسباً ساعد كثيراً في بث الرهبة المطلوبة لهذا المكان والمشهد. شعرت في البداية بربكة بسبب خلل علامات الترقيم بعض الشيء، الذي صعب عليّ تقطيع الجمل بشكل سليم، مشهد البداية بشكل عام كان ذو طابع سينمائي، ومن دقة وصفه شعرت بالرعب حقاً.
قصر (مهاب) ووصف تماثيل الأسود في حديقته كلها أوفت بغرض التقديم، وإن اندهشت من رقة ورهافة (مهاب) في مقابل ما يفعله رجله (سلطان)، لذا فكرت أنه ربما غير ملم بما يفعل!.. أدهشني أيضاً استسلام (عايش) للموت بتلك السهولة، وفصلني عن المتابعة ملحوظة صغيرة وهي أن النصول الحادة تجرح وقد تسبب الوفاة إذا ما جرحت وريداً لكنها لا تفصل رأساً عن جسد!
تعرفنا على (عمر)، ذلك الصحفي الذي يبحث دوماً عن سبق يستحق، ولا يرى في أي خبر مهما بلغت بشاعته ذلك السبق، فمن وجهة نظره أصبح العالم دموياً بشكل جعل مثل تلك البشاعة خبراً عادياً!
فكرت هنا، أي نوع من الكوارث سيكون هو السبق الذي ينتظر؟!.. وهل ينتظر (عمر) وقوع الكارثة لنقلها وكفى، دون محاولة منعها مثل د. (ندا) على سبيل المثال؟!..
قابلنا عم (سيد) - ساعي الجريدة - والذي ذكرني جداً بشخصية المواطن المطحون للكاتب والرسام (خالد الصفتي) في سلسلة "فلاش" التي تابعناها صغاراً، لكنها تشبهها في الجسد الهزيل والعيون الغائرة، ورقة الحال والرضا الذي يجري مجرى الدماء، لكن بينهما فرق، وهو أن شخصية (الصفتي) كانت - رغم كل هذا -  تنطق بالكوميديا ولو سوداء!
بدأ (عمر) البحث عما يثير شهيته الصحفية في الحوادث الواردة للصُول (صبحي)، وهنا كان رسم الكاتب لمبني القسم - الملطخة حوائطه ببقايا شحم "الفيش والتشبيه"  - وللعلم - المنكسر على سطح البناية – معبراً جداً عن نظرتنا له وما يحويه.
نكتشف ضرورة علم (مهاب) بما يفعل (سلطان) حين نتعرف على شخصية (برعي) مسئول الثلاجة في مستشفاه، والمصاب بشذوذ الاستمتاع جنسياً بالجثث الواردة إليه!..
كنت أفضل هنا – وفي بعض المواضع الأخرى في الرواية – لو يكتفي الكاتب بالحدث الوارد في المشهد لتقرير المعلومة، لكنه مع تقديمه لـ (برعي) أثناء انفراده بممارسة متعته المقيتة بوصفه الفعل، عاد وقرر المعنى في الحوار الدائر بينه وبين (مهاب) من جديد!.. أعتقد أنها محاول من الكاتب لإيضاح المعنى لكنها جاءت مباشرة أزيد من اللازم.
نرى (مهاب) يشير إلى (برعي) بأوامر ما فيما يخص الوفيات لديه، مما أعطانا نفس شعور د. (ندا) أن مستشفى د. (مهاب) ماهو إلا واجهة لتجارة الأعضاء، والتي تحاول الوصول للحقيقة في استماتة بلا جدوى.
شعرنا بما وصل إليه حال البسطاء الذين لم يعد لديهم سوى بيع لحومهم لتأمين الفتات لذويهم، وهو إسقاط حقيقي جداً لما وصلت له مصر!.. لكن... ما العلاقة الفعلية بين (سلطان) في القصر، و(برعي) في المستشفى؟!..
انطلق (عمر) يبحث خلف حالات الاختفاء العديدة التي أعطاه صديقه الضابط (محسن) بداية خيطها، وقدم لنا الكاتب خلال ذلك الضابط (مفيد)، في تلك الرؤية القائلة بأنه لا يوجد فساد مطلق عندما يمنطق لنا (مفيد) أسبابه، وأشار الكاتب هنا لأن من ينتهج من رجال الأمن أسلوب العنف باستمرار قد يتحول مع الوقت لأصم – بل ومستمتع -  بآلام الناس، أو قد يبقى محافظاً على توازن "لكل مقام مقال" بعيداً عن المساواة في الذل عدل كما يفعل (محسن)!..
صدمت من إظهار الكاتب للألفاظ النابية التى يستخدمها (مفيد) صراحة، لكنى بعد تفكر أيدته رغم الجرأة في الأسلوب، والتي أخرجتنا من ذلك الفصام فينا بين اعتيادنا سماعها وانتقادنا لقراءتها أو مشاهدتها فنياً مثلاً!..
تقطيع المشاهد بين بحث (عمر) خلف حالات الاختفاء، وبحث (ندا)  خلف مصير جثة بائعة المناديل وضعنا في جو سينمائي يصرف انتباهنا عن الحدث من منتصفه لنرى ما يوازيه من حدث آخر إذاناً بنقطة تلاقي، بالصورة التي جعلتني أتوقع أن يكون (أحمد خطاب) موهوباً أيضاً في كتابة السيناريو.
رغماً عني كنت في انتظار التقاء (عمر) و(ندا) في تلك المقبرة التي تحدث عنها في كلمات الخلفية!..
حين كشف لنا الكاتب ما يحدث من عبث في جثث ثلاجة مستشفى (مهاب)، ظننت أنه كشف لنا العقدة مبكراً ليكون استمتاعنا بحلها وليس بلغزها، لكن مع معايشتنا أكثر للشخوص وجدت أن الكاتب وضعنا في أكثر من خدعة جعلتنا نتوقع كل فترة عقدة مختلفة وكلها تشير لنفس الإسقاط في ترابط جيد جداً، لكن في النهاية لم نتوقع الحقيقة وذلك أثار إعجابي.
بدأ الكاتب يشير لبعض الاحتجاجات والتظاهرات في ميدان التحرير، لكن ما أدهشني أنه جعلها تستمر شهوراً مما أكد لي أنه لا يشير لثورة 25 يناير، وقد علمت فيما بعد أن الرواية كلها كُتبت قبل قيام الثورة بفترة، مما جعلنا أمام رؤية شاملة وواقعية جداً لحال البلد واستنتاج صائب لما سينتهي إليه.
يتلقى (عمر) توبيخاً من (طاهر) رئيس التحرير ليتوقف عما أسماه اختلاق قضية وهمية لأنه ببساطة أحد أفراد شبكة (مهاب)، الأمر الذي قرره الكاتب بشكل مباشر أيضاً كان سيفهم تلقائياً من سرد الأحداث.
يلتقي (عمر) و(ندا) حين يكتشف (عمر) أن عم (سيد) اختفى بدوره، خرج على المعاش فجأة وأخبر أسرته بسفره للعمل في الخارج، لكن بين أوراقه القليلة إيصال بتحاليل عديدة أجراها في مستشفى (مهاب)، وهو نفس الأمر الذي أثار فضول (ندا) لأن تكلفة تلك التحاليل كلها مسددة من حساب (مهاب) الخاص!...
مشهد وداع عم (سيد) لأسرته كان كسائر المشاهد حياً جداً وموجعاً لدرجة لم أستطع تخيلها لو كنت مكان ذلك البسيط. سحب دماء عم (سيد) - قبل استسلامه للذبح تماماً مثل (عايش) – توجه بي نحو استسلامنا منذ سنوات عديدة لامتصاص آخر قطرات آدميتنا الأمر الذي معه هان كل شيء... حتى الكرامة!..
بقي السؤال لفترة معلقاً، لم الذبح لو كانت تجارة في الأعضاء البشرية؟.. وتواردت إلي إجابات عديدة منها مثلاً طمعهم في نقل أعضاء حيوية تسبب الوفاة فحولوا البسطاء لديهم لبنك أعضاء أو ما شابه، لكن بقيت الحقيقة – رغم أنها فانتازيا عالية جداً – أبشع وأكثر الإسقاطات تعبيراً في الرواية.
وصلنا مع الكاتب لحال المصريين الذين تحولوا في السنوات الأخيرة لجثث تسعى، سبق وأن دُفنت حية!.. لكن، ترى هل هناك شيئاً يثير رغبتنا في استعادة الكرامة أو حتى الثأر لها، طمعاً في ألا تذهب أرواحنا سُدى؟!..
 جاء الرد حين ارتفع الكاتب بسقف الحدث حين يقرر (مهاب) ضم شريحة الأطفال اللقطاء ضمن أفاعيله المشبوهة، تحت ستار جمعية خيرية لرعايتهم. وجاء الحوار الدائر بين (سها) – شريكته-  وصديقتها التي أبدت تخوفها من أن يصل الأمر للصغار – إسقاطاً ملائماً لبداية الشرارة.....
الصغار.. الغد.. الأمل الذي ارتضينا لأجله كل هوان، حين يُمس لن يعد هناك معنى لما نعانيه، وإذن.....
"الشعب يريد إسقاط النظام"... تلك العبارة الوحيدة التي أضافها الكاتب بعد قيام الثورة وكانت آخر سطور الرواية، فبعدما يكتشف (عمر) و(ندا) و(محسن) كامل الحقيقة تكون المواجهة الأخيرة، وكانت النهاية المفتوحة فيها موفقة جداً حين اختلط علينا الأمر فيمن أطلق الرصاص على من؟!.. هل هو (محسن) الذي تدخل لنجدة صديقه و(ندا) بعد اختطاف الأخيرة؟.. أم (ندا) بنفسها التي لا تتخلى عن حمل السلاح في حقيبة يدها؟.. أم رجال (مهاب)، الذي أوصله إعجابه الشديد بـ (ندا) لفضح حقيقته البشعة؟...
  هذا لو نظرنا للنهاية من جانب الحدث البوليسي لرواية فنتازيا محكمة الخيوط، لكن مع النظر لاسقاطتها السياسة والحياتية سنجد بها نظرة مستقبلية ثاقبة، ليس فقط حتى قيام ثورة يناير، بل أيضاً وصولاً لواقعنا الذي دخلت فيه ثورتنا معركة مع قوى الفساد، لم تحسم حتى لحظة كتابة هذه السطور.
أبقانا الكاتب نحوم حول سؤال، هل نحن حقاً نمتلك القوة لنثور؟.. وحين نثور، هل نمتلك االقدرة على المحافظة على ثورتنا و إنقاذها من احتضارها بين يدينا الآن، أم أغلقنا الأعين وختمنا على القلوب وبعنا الحق من جديد للباطل؟!...


الخميس، 1 مارس 2012

فوجـا... عمرو الجندي



... قراءة في رواية "فوجا" لـ عمرو الجندي...

بكلمات قليلة غامضة - نُقشت مع آثار كف دموية بريشة (أحمد مراد) على الخلفية - جذبنا  (عمرو الجندي) إليها، وأما عن غلافها الأمامي فيتصدره... قتيل!..
هي "فوجا"، التي همست لنا - سطورها الحية جداً – في ختام سردها الشيق قائلة: "من هو ذلك الداهية الذي فعل كل شيء؟ قتل وسرق وحاول أيضاً أن يزج بمظلوم في السجن، من هو صانع السيناريو؟ من هو ذلك المخرج العظيم؟"
نعم تماماً كما توصلتم الآن، إن (عمرو الجندي) يأخذنا في رحلة إلى عالم الجريمة مع روايته الجديدة "فوجا"!.. لكن، ماهي الــ "فوجا"؟.. نعم هي مرض الهروب، لكن السؤال حقاً هنا الهروب مم؟.. ولم؟.. وإلى أين؟
  في البداية أدخلنا الكاتب إلى صوت أفكار (حسين)، ليسرد لنا معالم جريمة وقعت في ليلة صاخبة دون شعور أحد إلا هو، وبعد دقائق نجد أنفسنا أمام عدة أسئلة - نبتت في عقله- لتبقى معلقة فوق رؤوس القراء حتى مشهد النهاية في أسلوب شكسبيري لا تحصل معه على لحظة التنوير إلا بنهاية السرد. وبهذا نجد أن (الجندي) لم يتخل عن لونه الفلسفي كما يبدو للوهلة الأولى، بل اتجه بنا لنحياه ولنكتشفه في نفوسنا.
كانت الجريمة مركبة، وجاء مشهدها ومشهد اكتشاف (حسين) لها بارعاً وحياً جداً، كما لو كنا نشاهد شريطاً سينمائياً. أيضاً تصوير حديثه لنفسه متقناً جداً بكل ما انتابه من توتر فجر الكثير من التساؤلات في نفسه عن نفسه.
في الرواية هناك ثلاث أصوات تنقل لنا الحدث، (حسين) الذي أؤيد بشدة توقفه عن السرد فور وقوع الجريمة, تلاه صوت الراوي الذي يلاحق الأحداث ويرويها بعيون كل الشخصيات حتى ولو تباينت رؤاهم، مما أفاد الغموض المطلوب في الرواية، وأخيراً صوت (عمرو الجندي) نفسه في تحليله الخارج عن سياق الأحداث، والذي أشعرني أنني أشاهد أحد كهنة (آمون) أثناء حكيه لقصة التاسوع الإلهي الشهيرة، لكن بقدر ما كان هذا ممتعاً بقدر ما شعرت أنه بلا داعي خاصة مع لحظات المصارحة مع النفس التي انتابت كل الشخصيات ضمن الأحداث بالفعل، فكان يكفي أحد الأمرين.
قابلت العديد من التراكيب اللفظية غير المعتادة، كأن يقول (يقدح زناد الأمان).. أو (ينحرها ألف مرة).. أو (تجشأ الخوف)، ورغم أنها خدمت غموض الحدث لكن كثرة استخدام الكاتب لها أربكني أحياناً.
في نهاية الفصل الثاني نوه الكاتب عن أذان الفجر، فجاءت تلاوته لنص الأذان زائداً في غير فائدة لختام المشهد، وعلى العكس كان أفضل لو فاجئنا بنص الأذان دون مقدمات.
في نهاية هذا الفصل كان الكاتب قد استعرض لنا كل الشخوص بما جعل لدينا يقيناً أن كلها متورطة في الجريمة بصورة ما، وبقينا نؤكد وننفي ونعيد ترتيب كيفية تورطهم – كما نفعل في قطع البازل – حتى نهاية الراوية.
"سآتي إليك في الحال، أوه بالمناسبة لقد أرسلت لك تقرير المباحث، تباً للنسيان"
جاءت تلك الجملة الحوارية في الفصل الثالث، واستوقفني كثيرا كلمة  "أوه" -  OH المخالفة لسياق حوارنا العربي فهي كلمة غربية معبرة عن الدهشة أو ما شابه، لكن ربما أتت في هذا الموضع نظراً لتأثر الكاتب بدراسته للأدب الغربي.
مشا هد التحقيقات كانت أكثر من رائعة، جذبتني لأتابعها في شغف وفي كل مشهد أتوقع فاعل أو عدة فاعلين، لأعود في المشهد التالي لأراجع أفكاري مرة أخرى!.. وبذلك نجح الكاتب جداً في إبقاء أذهاننا متيقظة على الدوام.
في الفصل الخامس تنحل الجريمة المركبة بشكل وتتعقد بآخر، فبعد أن كان لدينا قاتل لجريمة واحدة نكتشف أن القتيل مات بطريقة أخرى بخلاف ما فعل القاتل، لنعود ونبحث عمن فعل ما لم يفعله الفاعل الأول.
قُرب النهاية استعرضنا مع وكيل النيابة كل الشخوص بكل دوافعهم، لدينا قتيلين - (اسماعيل) و(كريم) - والغريب أن لدى الجميع دوافع لقتلهما، (حسين) – (صفاء) – وحتى (خالد) والجاريْن المهمشين.
لحظة!.. تتسائلون أين تلك الـ "فوجا" في كل هذا؟!.. حسناً لقد فعلت مثلكم تماماً ليجيبني (حسين) في الفصل قبل الأخير حين بدأت تتكشف له حقيقة "فوجيته" وصدق مردودها على نفسه،
في الفصل الأخير أشار الكاتب لأحد الإجراءات القانونية التي اتخذتها (صفاء) زوجة (اسماعيل) بأنه "إعلان وراثة" واللفظ القانوني السليم هو "إعلام وراثة".. والله أعلم.
في النهاية وجدتني مستمتعة جداً بما قرأت، خاصة بعد أن اتجه (عمرو الجندي) للتعبير عن فلسفته الخاصة بشكل حياتي أكثر، قد يظنه البعض تخلياً عن رمزيته غير أنها كامنة دائماً ها هنا، في مشهد ما أو جملة ما أو..... جريمة ما!