السبت، 27 أكتوبر 2012

بورتريـــــه.. محمد مصيلحي


..قراءة في رواية "بورتريه" لـ محمد عبد القوي مصيلحي..
أخذنا الكاتب إلى حدث مبدئي – انفصال (نرمين) و(رأفت) - كتمهيد للرواية، فشعرت أنه حريص على ألا يضيع أي حرف كتبه بلا هدف، وبالفعل من الصعب جدا أن تتجاهل كلمة أو تشعر أن هناك زوائد بالعمل.
في ذلك الحدث المبدئي أوحى لنا بتكوين للشخصيات هو في الواقع معكوس عن الحقيقة، مما ساعد في زيادة التشويق. فصلني للحظة عن السرد الشيق جملة " رافعًا  بنصره الأيمن أمام ناظريها" حيث أن التشبيه لم يكن موفقا في رأيي لأنه سيشغل ذهن القارئ بكيفية رفع البنصر وحيدا دون أي أصبع آخر وهو فسيولوجيا أمر صعب.
في المشاهد التالية استمرت الخدعة لنظن (رأفت) تافها حقا بينما (نرمين) هي المميزة، لكن بعد أسطر قليلة اكتشفنا أنه فيما يبدو (نرمين) هي المجنونة بعض الشيء، وقبل أن نتساءل عن سبب الخدعة نجد أنفسنا أمام أول خيوط الخدعة الحقيقية المحكمة!..  "سلفادور دالي".. ليس الفنان الشهير بالطبع، لكنه ذلك الخفي الذي يعلم كل شيء ولا يعلمه أحد!.. في الواقع نحن محظوظون أن وجدنا فرصة للتساؤل بينما (نرمين) لم يكن لديها الكثير من الوقت للاندهاش من ذلك الغريب الذي يتصرف تماما كـ (رأفت) لكنه ليس هو!..
وضعنا الكاتب في مواجهة تدريجات للنفس البشرية يستعرضها وهو يؤكد - بشكل غير مباشر وسلسل - على أن البشر جميعا يحملون بداخلهم دائما النصفين.. الخير والشر!.. ليس بالضرورة أن يتساوى النصفان أبدا - فمن المنطقي أن يتغلب جانب على آخر بداخلنا -وليس شرطا أن يكون الظاهر منَّا هو الجانب صاحب الغلبة على نفوسنا، بل على العكس كلما تغلب الشر فينا مثلا كان خفيا أكثر واكثر. لذا يرفل الجميع في أثواب النقاء، البعض منهم لا يتلون ثوبه وإن تلوث ببعض البقع فيظل نقيا، والبعض الآخر بمجرد أن يمس ثوبه بضع قطرات من المطر تظهر أنها مجرد صبغة بيضاء تخفي خلفها سواد لا نهاية له.
"لا توجد أياد بيضاء في هذا المنجم"...
ليس مجرد "سلوجان" للرواية أو جملة مقتبسة من ذلك الكتاب الجهنمي "مفاوضات إبليس"، بل تلك هي فكرة وهدف الرواية، بمعنى آخر يجذبنا الكاتب لتأكيد قول المسيح عليه السلام: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر."..
لكن من منا يستطيع حقا؟!.. جميعنا تقريبا لا يمكنه قبول خطايا غيره لكنه يبحث عن ألف تبرير وألف عين للرحمة بخطاياه الخاصة فقط دون غيره!.. هل إذن تتحدد تلك المساحة من السماح بأيهما يغلب على الآخر في داخلنا حقا، الخير أم الشر؟!.. ربما..
جعل الكاتب ذلك الطيف الخرافي "سلفادور دالي" يتلاعب بالأبطال كل على حسب مساحة الشر في عقله الباطن، وكلما على الظلام فيه أكثر كان أسهل في الانقياد وإحكام اللعنات على من حوله، ليدفعه في النهاية نحو حلقة انتقامية لا تنفك إلا بتعويذة من دمائه!..
(نرمين)، كانت البداية والأيسر في السقوط لأنها تركيبة نفسية مريضة بحب الذات والغرور والحقد، لذلك ارتكبت الشرور بعقلها الواعي جدا، وكانت التربة الخصبة لبداية كل شيء.
(سمير)، هو شخصية يتساوى فيها الجانبين في رأيي، لذا لم يمكنه أبدا أن يضر أو يأذي حتى من أذوه بعقله الواعي، لكنه في نفس الوقت هو أول سطر في الحكاية ونقطة الارتكاز لتفعيل لعنات "مفاوضات إبليس" الذي هرب إليه مرة بسبب الحقد ومرة أخرى بسبب الإخلاص لصديقه.
(رامز)، شره أعلى قليلا مما يمتلك من خير لكنه أيضا لا يمكنه أن يقدم على شيء يؤنبه عليه ضميره أبدا، لكنه كان صاحب الأهداف الخفية الأكثر تشعبا إذ يمتلك هدفا أسودا نحو الجميع فيما عدا (داليا).
(داليا)، الطرف العكسي في مربع احتمالات أرسطو مقارنة مع (نرمين)، فبعقلها الواعي يطغي خيرها بمراحل على أية افكار حقودة أو سوداء، ولذا كانت ضحية لتضارب أحقاد  (نرمين) و (رامز)، وحتى مع خضوعها بعلقها الباطن للعنات "دالي" لم ترتكتب شيئا إلا للدفاع عمن تحب.. (رأفت)!..
(رأفت)، هو الشخصية التي انصبت عليها كافة الأطماع والأحقاد والرغبات السوداء والخفية بداخل نفوس الجميع، فكان يشبه المواطن الذي يقبع في نهاية السلم الإجتماعي ليحمل بأكتافه الوهنة كل شيء.
رسم دقيق للشخصيات ولغة الحوار، وإسقاط مناسب لفلسفة العمل على الفكرة الخيالية به. في النهاية يمكننا بسهولة رسم هرم خيالي للأبطال تبعا لنسبة الشر فيهم وما دفعهم لارتكابه، ليتضح أن "سلفادور دالي" ليس طرفا نواجهه، بل هو حقيقة تحيا أسفل جلد كل منَّا، "سلفادور دالي" هو ما نخفيه من نفوسنا.. ولكن، مهما كان الشر فينا هناك دوما نقطة للرجوع وأخرى للسماح..
أمر أخير جلست أفكر فيه بشكل واقعي بعد أن خرجت من حبكة الفانتازيا الممتعة حقا، هل هناك يالفعل شخصيات بنفس مثالية (داليا) و(رأفت) يمكنها أن تسامح فيما سامحا؟!.. لا أظن، لكنه مقبول داخل العمل لأنه أحدث التوازن المطلوب في مقابل الشخصيات الشريرة بطبعها والشخصيات التي تقف في منطقة وسطى بين الخير والشر.
"بورتريه"، لوحة أدبية متناسقة الفكرة والأسلوب والهدف، لوحة تخبرنا أن نبدأ في التبرأ من الأياد السوداء فورا.. فقط لو كنَّا نحن ذوي أياد بيضاء خالصة!