السبت، 14 ديسمبر 2013

ترنيمة خالدة.. قراءة في رواية "ترنيمة سلام" لـ أحمد عبد المجيد


"أنا السؤال والجواب.. أنا مفتاح السر وحل اللغز، أنا بشر عامر عبد الـ .."

قفزت عبارة يحيى الفخراني - التي اشتهر بها تتر مسلسل زيزنيا - إلى ذهني بمجرد انتهائي من "ترنيمة سلام" لـ أحمد عبد المجيد، لكن بدون اسم: بشر عامر عبد الظاهر بالطبع!..

قدم لنا (عبد المجيد) وجبة روحانية دسمة بداخل أحداث حياتية نعايشها في كل لحظة، ليؤكد لنا أن السر دائما فينا لو بحثنا جيدا!
في العادة يكون للعمل الروائي هدف رئيسي أو فلسفة ما، وأهداف أخرى فرعية تعكس آراء الكاتب في التفاصيل، وعادةً ما تكون تلك الأهداف متوازنة ومتداخلة بما يرضى أكبر شريحة ممكنة من القراء، فنجد الهدف القريب - وهو الحكاية - والتي يستمتع بها القارئ الذي يهوى الأحداث الجديدة، ونجد جماليات السرد التي تخاطب القارئ الذي يقدر اللغة وفنياتها، وأخيرًا نجد فلسفة العمل التي يلتقطها فقط القارئ الباحث عن قيمة جديدة مضافة مع كل سطر يقرأه. كل تلك الأهداف تقدم متشابكة في تناغم، ولكل قارئ عينه الكاشفة للفائدة التي يريد.

في "ترنيمة سلام" قدم لنا الكاتب كل ذلك ولكن في تتابع عوضًا عن التشابك، فمع كل مشهد جديد يقوم بمخاطبة وعي أعمق، يحكي، ثم يعلو باللغة، ثم يأخذنا معه صاعدًا لمفتاح السر، وكأنما يريد ألا يكمل معه رحلة الرواية سوى القارئ الباحث عن القيمة المضافة!

في بداية الأحداث قد يتخيل القارئ أن الكاتب وضعه أمام عدة أبطال لعدة حكايات هناك رابط ما بينهم جميعًا، فيقف مفكرًا للحظات متسائلاً أيهم بطل العمل الحقيقي؟! هل هو المسافر (خالد عبد الدايم)، أم الرجل المسن (خالد محمد)، أم الكاتب المعروف (خالد محفوظ)؟!.. ومع متابعة القراءة نكتشف أن التعدد ليس فعليًا والحكايات لم تتطرق بعيدًا من الأساس وأنها حكاية متصلة حدثت وتحدث باستمرار، وأن لكل (خالد) فيهم موقعًا نمر عليه جميعًا في حياتنا!

اختيار اسم (خالد) موفق جدًا من الكاتب، فالمعنى الذي يتعرض له خالد في أذهان كل البشر، والسؤال الذي طرحه علينا في بداية العمل على لسان (خالد) الفتى الصغير: "كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على سلامه النفسي دائمًا؟" هو سؤال أزلي ربما يتردد يوميًا في أذهاننا دون أن نشعر وبطرق مختلفة أبسطها حين نتساءل: "يارب امتى أرتاح بقى؟!"

وعلق لنا الكاتب تحديًا واضحًا حين أعطانا طرف الخيط في المشاهد الأولى في تساؤل ذلك الفتى، إلا أن القارئ لن يتمكن من الإجابة على ذلك السؤال حتى ولو حاول ببعض إجابات كلها لن تكون سوى جزء من الإجابة الصحيحة وليست كاملة!

استخدم الكاتب - في بداية تعريفنا بشخصية (خالد) – أسلوب التداعيات الفكرية لكي يعكس لنا سوداوية الشخصية بشكل واضح، فنحن جميعًا حين نفكر في همومنا تتداعى أفكارنا للأسوأ ونجلس مصابين بشلل الإرادة نتخيل الوقائع ونتخيل ردود أفعالنا التي لن نستطيع إتيانها في الحقيقة كنوع من رد الفعل النفسي المضاد لمخاوفنا .

واستمر الكاتب يعلو بالحدث ويخرج بـ (خالد) من فشل تلو الآخر لدرجة نندهش معها من كل هذا الكمّ من السقطات في حياته، لكن (خالد) كان كمن يستدعي بطاقته السلبية كل الفشل من حوله حتى إن ذلك انعكس على موضوعات قصصه، فكتب عن النفس البشرية بشكل سودوي للغاية لمجرد أن يثبت لنفسه أنه إنسان سوي!

لكنه – ومع آخر نقاط فشله التي وصل معها إلى أنه لم يعد يمتلك ما يخشى عليه، ولم تعد به الرغبة حتى في استدرار عطف الآخرين – تحول ليكون إنسانًا إيجابيًا دون أن يشعر، فخسارته لكل شيء منحته القدرة الخفية على الإتيان بأفعال كان يخشاها لكي لا يفقد العطف ممن حوله. وبدأ عند تلك النقطة في استعادة نفسه شيئًا فشيئًا، وكأنما نحن نستدعي أقدارنا، فقد وقعت في يده لحظتها "الحكم العطائية" - التي خطها الإمام (ابن عطاء الله) حقًا لكنها وردت في الرواية بتفسير خطه الكاتب - ليجد نفسه يقرأ ما فعله تحت مؤشرات الإرادة الحقيقية، وكأنما قدره كان ينتظر منه لمحة إيجابية تضعه على بداية تصالحه مع الحياة ومع نفسه!

ومن أهم ما تقرأه في الحكم العطائية أن الحب هو الفطرة الأولى وما دونه زيف، فلو حاولونا التمسك بتلك الفطرة - رغم كل الطاقات السلبية الكريهة - سنتمكن من استدعاء الخير المقدر لنا، بالطبع لن نبدل أقدارنا ولكن بنظرة إيمانية بسيطة نجد أن خلف كل واقعة تعيسة خير لا ندركه ونعلم أن القدر هو الخير في النهاية، ولكنَّا حين نقوم بالاختيارات الخاطئة قد تقع لنا الأمور التعيسة التي تحزننا، فتعالوا نتخيل لو أصررنا على استقبال الطاقة الخيرة فقط ممن حولنا موقنين أن الخير فيما لا ندركه عند الله، وقتها سنصل لخير أقدارنا بالطرق الأقصر والأكثر مباشرة دون حوادث تعيسة تؤلمنا!

في اعتقادي هذا ما أراد الكاتب أن يوصله لنا، فبالطبع لم يكن هدفه أن نتصور أولياء الله الصالحين وهم يبدلون الأقدار وفقًا لرغباتهم، لكنهم في الحقيقة أُناس آمنوا بخير القدر ووثقوا في الإرادة الإلهية فكانت اختياراتهم الحياتية موائمة للقدر المكتوب لهم وليس العكس.

إن أردت أن أنقل لكم وصفا عن لغة الرواية وسردها فكفى بي أن أذكركم بتلك الأبيات للحسين بن المنصور (الحلاج) لتتصوروا ما قد تعيشونه مع الحدث وما قد تحمله لكم لغة الكاتب:

والله ما طلعت شمسٌ ولا غرُبت إلا و حبّـك مقـرونٌ بأنفاسـي
ولا خلوتُ إلى قومٍ أحدّثهــم إلا وأنت حديثي بين جُلاســي
ولا ذكرتُك محزونًا و لا فَرِحًا إلا و أنت بقلبي بين وسواســـي
ولا هممتُ بشربِ الماء من عطشٍ إلا رَأَيْتُ خيالًا منك في الكـــأسِ

وبعد رحلة رائعة، تركت دائمًا عينيّ دامعة - تمامًا كما تفعل بي أبيات الحلاج - أتحدى أي قارئ ألا تنتقل إليه موجتها الإيجابية، أتحداه ألا يشعر بطاقة حب هائلة قد لا يتمكن من شرحها حتى لنفسه وهي تتسرب منه إلى كل شيء وكل شخص حوله!..
عزيزي القارئ ستحب حتى أخطاءك السابقة وما لحقها من ألم، لكنك لن تندم عليها لأنها جعلتك على ما أنت عليه الآن إن كنت راضٍ عن قدرك، وإن كنت من هؤلاء التعساء ملقيي اللوم على الحظ العثر دائمًا أعدك أن تقف مفكرًا "ما الذي تفعله بنفسك أنت وليس الحظ!"

أعزائي، حاولوا أن تتعلموا كيف تحافظوا على تلك الترنيمة المسالمة التي ستغزو وجدانكم مع آخر سطور العمل، حاولوا كما فعل (خالد) بعد سماعه لقصة (خالد) التي رواها له الشيخ (خالد) لأنه عرف فيها نفسه ومدى ما قد تحققه له إرادته من سلام داخلي!


السبت، 27 أكتوبر 2012

بورتريـــــه.. محمد مصيلحي


..قراءة في رواية "بورتريه" لـ محمد عبد القوي مصيلحي..
أخذنا الكاتب إلى حدث مبدئي – انفصال (نرمين) و(رأفت) - كتمهيد للرواية، فشعرت أنه حريص على ألا يضيع أي حرف كتبه بلا هدف، وبالفعل من الصعب جدا أن تتجاهل كلمة أو تشعر أن هناك زوائد بالعمل.
في ذلك الحدث المبدئي أوحى لنا بتكوين للشخصيات هو في الواقع معكوس عن الحقيقة، مما ساعد في زيادة التشويق. فصلني للحظة عن السرد الشيق جملة " رافعًا  بنصره الأيمن أمام ناظريها" حيث أن التشبيه لم يكن موفقا في رأيي لأنه سيشغل ذهن القارئ بكيفية رفع البنصر وحيدا دون أي أصبع آخر وهو فسيولوجيا أمر صعب.
في المشاهد التالية استمرت الخدعة لنظن (رأفت) تافها حقا بينما (نرمين) هي المميزة، لكن بعد أسطر قليلة اكتشفنا أنه فيما يبدو (نرمين) هي المجنونة بعض الشيء، وقبل أن نتساءل عن سبب الخدعة نجد أنفسنا أمام أول خيوط الخدعة الحقيقية المحكمة!..  "سلفادور دالي".. ليس الفنان الشهير بالطبع، لكنه ذلك الخفي الذي يعلم كل شيء ولا يعلمه أحد!.. في الواقع نحن محظوظون أن وجدنا فرصة للتساؤل بينما (نرمين) لم يكن لديها الكثير من الوقت للاندهاش من ذلك الغريب الذي يتصرف تماما كـ (رأفت) لكنه ليس هو!..
وضعنا الكاتب في مواجهة تدريجات للنفس البشرية يستعرضها وهو يؤكد - بشكل غير مباشر وسلسل - على أن البشر جميعا يحملون بداخلهم دائما النصفين.. الخير والشر!.. ليس بالضرورة أن يتساوى النصفان أبدا - فمن المنطقي أن يتغلب جانب على آخر بداخلنا -وليس شرطا أن يكون الظاهر منَّا هو الجانب صاحب الغلبة على نفوسنا، بل على العكس كلما تغلب الشر فينا مثلا كان خفيا أكثر واكثر. لذا يرفل الجميع في أثواب النقاء، البعض منهم لا يتلون ثوبه وإن تلوث ببعض البقع فيظل نقيا، والبعض الآخر بمجرد أن يمس ثوبه بضع قطرات من المطر تظهر أنها مجرد صبغة بيضاء تخفي خلفها سواد لا نهاية له.
"لا توجد أياد بيضاء في هذا المنجم"...
ليس مجرد "سلوجان" للرواية أو جملة مقتبسة من ذلك الكتاب الجهنمي "مفاوضات إبليس"، بل تلك هي فكرة وهدف الرواية، بمعنى آخر يجذبنا الكاتب لتأكيد قول المسيح عليه السلام: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر."..
لكن من منا يستطيع حقا؟!.. جميعنا تقريبا لا يمكنه قبول خطايا غيره لكنه يبحث عن ألف تبرير وألف عين للرحمة بخطاياه الخاصة فقط دون غيره!.. هل إذن تتحدد تلك المساحة من السماح بأيهما يغلب على الآخر في داخلنا حقا، الخير أم الشر؟!.. ربما..
جعل الكاتب ذلك الطيف الخرافي "سلفادور دالي" يتلاعب بالأبطال كل على حسب مساحة الشر في عقله الباطن، وكلما على الظلام فيه أكثر كان أسهل في الانقياد وإحكام اللعنات على من حوله، ليدفعه في النهاية نحو حلقة انتقامية لا تنفك إلا بتعويذة من دمائه!..
(نرمين)، كانت البداية والأيسر في السقوط لأنها تركيبة نفسية مريضة بحب الذات والغرور والحقد، لذلك ارتكبت الشرور بعقلها الواعي جدا، وكانت التربة الخصبة لبداية كل شيء.
(سمير)، هو شخصية يتساوى فيها الجانبين في رأيي، لذا لم يمكنه أبدا أن يضر أو يأذي حتى من أذوه بعقله الواعي، لكنه في نفس الوقت هو أول سطر في الحكاية ونقطة الارتكاز لتفعيل لعنات "مفاوضات إبليس" الذي هرب إليه مرة بسبب الحقد ومرة أخرى بسبب الإخلاص لصديقه.
(رامز)، شره أعلى قليلا مما يمتلك من خير لكنه أيضا لا يمكنه أن يقدم على شيء يؤنبه عليه ضميره أبدا، لكنه كان صاحب الأهداف الخفية الأكثر تشعبا إذ يمتلك هدفا أسودا نحو الجميع فيما عدا (داليا).
(داليا)، الطرف العكسي في مربع احتمالات أرسطو مقارنة مع (نرمين)، فبعقلها الواعي يطغي خيرها بمراحل على أية افكار حقودة أو سوداء، ولذا كانت ضحية لتضارب أحقاد  (نرمين) و (رامز)، وحتى مع خضوعها بعلقها الباطن للعنات "دالي" لم ترتكتب شيئا إلا للدفاع عمن تحب.. (رأفت)!..
(رأفت)، هو الشخصية التي انصبت عليها كافة الأطماع والأحقاد والرغبات السوداء والخفية بداخل نفوس الجميع، فكان يشبه المواطن الذي يقبع في نهاية السلم الإجتماعي ليحمل بأكتافه الوهنة كل شيء.
رسم دقيق للشخصيات ولغة الحوار، وإسقاط مناسب لفلسفة العمل على الفكرة الخيالية به. في النهاية يمكننا بسهولة رسم هرم خيالي للأبطال تبعا لنسبة الشر فيهم وما دفعهم لارتكابه، ليتضح أن "سلفادور دالي" ليس طرفا نواجهه، بل هو حقيقة تحيا أسفل جلد كل منَّا، "سلفادور دالي" هو ما نخفيه من نفوسنا.. ولكن، مهما كان الشر فينا هناك دوما نقطة للرجوع وأخرى للسماح..
أمر أخير جلست أفكر فيه بشكل واقعي بعد أن خرجت من حبكة الفانتازيا الممتعة حقا، هل هناك يالفعل شخصيات بنفس مثالية (داليا) و(رأفت) يمكنها أن تسامح فيما سامحا؟!.. لا أظن، لكنه مقبول داخل العمل لأنه أحدث التوازن المطلوب في مقابل الشخصيات الشريرة بطبعها والشخصيات التي تقف في منطقة وسطى بين الخير والشر.
"بورتريه"، لوحة أدبية متناسقة الفكرة والأسلوب والهدف، لوحة تخبرنا أن نبدأ في التبرأ من الأياد السوداء فورا.. فقط لو كنَّا نحن ذوي أياد بيضاء خالصة!

الأحد، 1 أبريل 2012

نيكروفيليا... شيرين هنائي



... قراءة في رواية "نيكروفيليا" لـ شيرين هنائي...
نخطو إلى داخل "نيكروفيليا" بابتسامة حائرة بين خفة ظل المقدمة وغموض الـ "نيكروفيليا"!..
في البداية واجهتنا (شيرين هنائي) بمستوى إجتماعي بسيط تخرج منه بطلتنا (منسية)، وتوافق مع تلك البساطة استخدامها للفصحى البسيطة في غير ركاكة.
نجد أنفسنا في مواجهة مراهقة تنعدم لديها كل رغبة في الحياة، أنثى تهرب من أنوثتها بدلاً من أن تتعرف عليها، إنسانة تلوم نفسها على أنها تحيا، تهرب – لسبب ما – من حياتها بشكل مؤلم وسلبي مرتضية أن تقبع في الظلام على هامش الكون، وحتى إذا ما تبادر لنا أنها تحيا كحيوان مهمل، نجد أن حتى الحيوان يعلوها بدرجة إذ يعلن عن رغباته بينما تحتقرها هي!..
(منسية) منسية حتى بالنسبة لذاتها، وانعكس ذلك حتى على تكوينها الجسماني، فأصبح من الصعب جداً اكتشاف أنها فتاة!.. نظن في البداية – تماماً كالدكتور (جاسر) - أنها تعاني حالة فقدان شهية هستيري، ولم نكتشف سريعاً – مثله تماماً – بوادر الحالة المرضية التي تستحق أن تكون موضوع رسالته العلمية.... الـ "نيكروفيليا"!
حديث الكاتبة عن علم النفس نم عن احترامها الشديد لذلك العلم ورعايتها له إن جاز التعبير، أما عن استغراقها في وصف تلهف (جاسر) على تلك التجربة جعلنا نشعر بالخطر المقبل الذي لا ندري كنهه أمام غموض تلك الـ (منسية)!
استمرت الكاتبة في السرد المتواصل والقفز بنا بين المشاهد هنا وهناك، الأمر الذي استغرقني تماماً في غير ملل ولا اجهاد، بل على العكس هو أسلوب ممتع للغاية ومثير.
رعباً نفسياً يتملكنا إزاء تلك الصغيرة ونحن نتخبط في ذكرياتها – التي سردتها الكاتبة في "فلاشات" سريعة وقوية وصادمة، ما بين حموضة ما تلقيه لها زوجة أبيها من أطعمة، وبين ما تتلقاه من خبرات جنسية مقززة منها هي وأبيها!
تدفعنا الكاتبة نحو رعب مختلف ونحن نتابع (جاسر) الذي سعى لمتابعة حالة (منسية) طمعاً في تحقيق مجده الخاص، غير ملتفت لأن أنوثتها – ذات الخبرات الجنسية السيئة - بدأت تتفتح بين يديه هو، وأقنع نفسه أنه ينتزعها من بيئة وضيعة مع أبيها وزوجته اللذان يعاملاها كمخلوق كريه، وزميلتها (فُتنة) ابنة "التُربي" والتي فيما يبدو تكبر لتكون مثلية أخرى، مضيفةً لـ (منسية) خبرات جنسية سيئة أكثر!....
لكن (جاسر) لم يلتفت - وهو يبعدها عن حياتها – لما قد يحدث لها حين ينتهى بحثه، ولم يكلف نفسه عناء التفكير فيما سيئول له حالها حين يتركها لتعود لبيئتها الفاسدة، أو بمعنى أدق كان يرجئ حل كل المشكلات - الناجمة عن انتزاعه لها من عالمها - لما بعد!
لذا كان اعترافه بالفشل - بعد عام كامل أمضته (منسية) في بيته – صدمة له قبل أن تكون لها، لكنها في النهاية لم تكن بالنسبة له حينها سوى تجربة علمية فاشلة، أو هكذا تصور!.. وهنا وفقت الكاتبة في اختيار النقطة التي تتوقف فيها عن متابعة السرد، لتنقلنا - بدون أن نشعر - لإيقاع أبطأ في الأحداث لكنه أكبر أثراً!
بالنسبة لـ (منسية)، كان تجاهل (جاسر) لإنسانيتها الوليدة سبباً لظهور حقيقة مرضها الذي كان فقدان الشهية قشرة رقيقة تغلفه ليس أكثر، لتتحول (منسية) بعدها لوحش يحيا في الظلام، يجتر ذكريات حلوة مع (جاسر) تؤلمها في واقعها المتدني.
خاطبتنا الكاتبة – على لسان (منسية) - بخواطر متقنة في أوراقها الخاصة التي سجلتها على مدار ثلاث سنوات عاشتها وحيدة في الظلام بعد هروبها من بيت (جاسر)، وفيما يبدو أنها مهارة اكتسبتها في بيته هو، فليس من المعقول أن تدون مثل تلك الخواطر من خرجت من مثل تلك البيئة.
دُمر عالمها السابق أيضاً إثر انعدام رغبة أبيها في الحياة حين فقدها، فخسر زوجته وأمضى ما بقي من عمره في السجن بعد ضبطه بجرعات من مخدراته التي أدمنها!
عاشت (منسية) لا تتصل بمخلوق سوى(فُتنة) ابنة "التُربي"، فهي منقطعة عن الدراسة منذ أن هربت من بيت أبيها، ولا تملك سوى التسلل إليه وهو مغلق بعد سجنه، وتحيا بثمن ما تبقى من حليّ أمها الراحلة، وهنا تدرجت الكاتبة بالحدث نحو الذروة بسلاسة لم أشعر معها إلا ونحن قبيل النهاية ببضع وريقات فقط!
بقيت حاجة وحيدة تعلمتها في بيت (جاسر) وأصبحت تلح عليها لإشباعها، رغباتها كأنثى! ولأنها لم تفلح في إشباعها معه كما تمنت وحلمت، ولأنه تجاهلها في غير اكتراث، فكان من الطبيعي أن يجذبها الموت لعالمه باعتباره تذكرة المرور لإشباع رغباتها المريضة دون اعتراض أو نفور أحد منها، فكان الموت لها حرية!.. ولم تدرك (منسية) كل هذا إلا مع تلصصها لأول مرة على جثة ذلك الرجل هناك... في المقابر حيث تحيا صديقتها المثلية (فُتنة)!
وبدأت تعيش (منسية) حالة الـ "نيكروفيليا" بنهم مرعب، وقام بينها وبين(فُتنة) اتفاق شيطاني، تتمتع فيه الأولى بممارسات جنسية شاذة مع الجثث، وتستفيد فيه الثانية بما تبقى من نقود الأولى، ورغم أن الكاتبة لم تصف تلك الممارسات إلا أنها رسمت بتقريرها لحال (منسية) آلاف المشاهد بلا كلمات!
لكن مع انقطاع النقود تنقطع المتعة، وهنا يكبر الوحش بداخل (منسية) لتخطط أن تنال الرجل الوحيد الذي تمنته وتساعدها صديقتها لتنال هي الأخرى ما تتمناه من مال وفير.
عادت إلى (جاسر) تطلب العلاج مرة أخرى، ورحب هو بالطبع بعد أن أمضى ثلاث سنوات يحيا بشعوره بالذنب تجاهها لتخليه عنها.
لكي تنال (جاسر) كان يجب أن يكون مثل سابقيه.. جثة، ولأنه الحي الوحيد الذي اشتهته، فلم يستطع أن يشبع رغبتها الشاذة فيه بعد موته كالآخرين، فلحقت به!!
"يمكنك أن تحب منسية أو تكرهها.. يمكنك أن تلوم جاسر أو تجد له أعذارا.. لكن بعد أن تغلق الرواية عدني أن تفكر مرة أخرى في أحكامك على من حولك.."
بتلك الكلمات افتتحت (شيرين) روايتها، وبها أختتم كلماتي مؤكدة أنها نجحت تماماً في إيصالها لنا. ولكن...

هناك بعض الملاحظات التي لم تفقدني استمتاعي بالرواية حقا ولكنها أجبرتني على التساؤل وعلى أن يبقى التساؤل بلا رد، وهذا أمرا قد يؤخذ على الكاتبة.
من المفروض مع نهاية العمل أن تأتي كل الإجابات، فأين هي؟..
انتظرت لأرى كيف كان (جاسر) بمثل تلك السذاجة ليصدق أن عودة (منسية) بمثل ما ظهرت من براءة؟.. بل كيف أقنع نفسه من البداية بمثل تجربته النفسية تلك، وهو الأكثر دراية بتحولات الانحرافات النفسية؟!..

أمر آخر لم تستطع الكاتبة اقناعي به تماما، فخرجت من الرواية وأنا مدركة أنها رواية "كدة وكدة"... كيف يمكن لحياة إنسان مهما قصرت أن تقتصر على تلك التفاعلات المحدودة مع البشر ولو كان من في حياته عدد ضئيل من البشر كما في حالة (منسية)؟.. ظهر الأمر كما لو كان "المخرج عايز كدة".. شعرت بسقوط تفاصيل حياتية كثيرة كان يمكنها أن تؤكد لنا وجود مثل ذلك الإنحراف النفسي المسمى "نيكروفيليا" في مجتمعنا...
"."."

الاثنين، 12 مارس 2012

ثورة موتى... أحمد خطاب


... قراءة في رواية "ثورة الموتى" لـ أحمد خطاب...
تجذبنا كلمة "ثورة" لأول وهلة، لتفزعنا بعدها كلمة "موتى"، وتبقينا الجملة مكتملة – "ثورة الموتى" – في شرود نتفكر في ذلك العنوان المثير لرواية (أحمد خطاب) الجديدة!
حين اختار الكاتب ذلك الجزء الحواري - لتنقشه ريشة مصمم الغلاف (محمد كامل) على خلفية الرواية - أحسبه كان متعمداً أن يطرق أبواب الفضول فينا لكي نحاول إدراك كيفية تحرك يد ما خلف جدار ما في تلك المقبرة، وكأنما نتقدم -  خلف (عمر) و(ندا) بداخلها -  نبدأ القراءة!
"تتصادم السحب فتجرح سحابة أخرى، فتسيل منها صاعقة برق خاطف بنوره المضيء في هذا الليل المدلهم، وتزأر برعد كوحش كاسر جريح صوته مهيب. ".. تعبير رائع أول ما صادفني مع بداية القراءة، ووجدته تصويراً مناسباً ساعد كثيراً في بث الرهبة المطلوبة لهذا المكان والمشهد. شعرت في البداية بربكة بسبب خلل علامات الترقيم بعض الشيء، الذي صعب عليّ تقطيع الجمل بشكل سليم، مشهد البداية بشكل عام كان ذو طابع سينمائي، ومن دقة وصفه شعرت بالرعب حقاً.
قصر (مهاب) ووصف تماثيل الأسود في حديقته كلها أوفت بغرض التقديم، وإن اندهشت من رقة ورهافة (مهاب) في مقابل ما يفعله رجله (سلطان)، لذا فكرت أنه ربما غير ملم بما يفعل!.. أدهشني أيضاً استسلام (عايش) للموت بتلك السهولة، وفصلني عن المتابعة ملحوظة صغيرة وهي أن النصول الحادة تجرح وقد تسبب الوفاة إذا ما جرحت وريداً لكنها لا تفصل رأساً عن جسد!
تعرفنا على (عمر)، ذلك الصحفي الذي يبحث دوماً عن سبق يستحق، ولا يرى في أي خبر مهما بلغت بشاعته ذلك السبق، فمن وجهة نظره أصبح العالم دموياً بشكل جعل مثل تلك البشاعة خبراً عادياً!
فكرت هنا، أي نوع من الكوارث سيكون هو السبق الذي ينتظر؟!.. وهل ينتظر (عمر) وقوع الكارثة لنقلها وكفى، دون محاولة منعها مثل د. (ندا) على سبيل المثال؟!..
قابلنا عم (سيد) - ساعي الجريدة - والذي ذكرني جداً بشخصية المواطن المطحون للكاتب والرسام (خالد الصفتي) في سلسلة "فلاش" التي تابعناها صغاراً، لكنها تشبهها في الجسد الهزيل والعيون الغائرة، ورقة الحال والرضا الذي يجري مجرى الدماء، لكن بينهما فرق، وهو أن شخصية (الصفتي) كانت - رغم كل هذا -  تنطق بالكوميديا ولو سوداء!
بدأ (عمر) البحث عما يثير شهيته الصحفية في الحوادث الواردة للصُول (صبحي)، وهنا كان رسم الكاتب لمبني القسم - الملطخة حوائطه ببقايا شحم "الفيش والتشبيه"  - وللعلم - المنكسر على سطح البناية – معبراً جداً عن نظرتنا له وما يحويه.
نكتشف ضرورة علم (مهاب) بما يفعل (سلطان) حين نتعرف على شخصية (برعي) مسئول الثلاجة في مستشفاه، والمصاب بشذوذ الاستمتاع جنسياً بالجثث الواردة إليه!..
كنت أفضل هنا – وفي بعض المواضع الأخرى في الرواية – لو يكتفي الكاتب بالحدث الوارد في المشهد لتقرير المعلومة، لكنه مع تقديمه لـ (برعي) أثناء انفراده بممارسة متعته المقيتة بوصفه الفعل، عاد وقرر المعنى في الحوار الدائر بينه وبين (مهاب) من جديد!.. أعتقد أنها محاول من الكاتب لإيضاح المعنى لكنها جاءت مباشرة أزيد من اللازم.
نرى (مهاب) يشير إلى (برعي) بأوامر ما فيما يخص الوفيات لديه، مما أعطانا نفس شعور د. (ندا) أن مستشفى د. (مهاب) ماهو إلا واجهة لتجارة الأعضاء، والتي تحاول الوصول للحقيقة في استماتة بلا جدوى.
شعرنا بما وصل إليه حال البسطاء الذين لم يعد لديهم سوى بيع لحومهم لتأمين الفتات لذويهم، وهو إسقاط حقيقي جداً لما وصلت له مصر!.. لكن... ما العلاقة الفعلية بين (سلطان) في القصر، و(برعي) في المستشفى؟!..
انطلق (عمر) يبحث خلف حالات الاختفاء العديدة التي أعطاه صديقه الضابط (محسن) بداية خيطها، وقدم لنا الكاتب خلال ذلك الضابط (مفيد)، في تلك الرؤية القائلة بأنه لا يوجد فساد مطلق عندما يمنطق لنا (مفيد) أسبابه، وأشار الكاتب هنا لأن من ينتهج من رجال الأمن أسلوب العنف باستمرار قد يتحول مع الوقت لأصم – بل ومستمتع -  بآلام الناس، أو قد يبقى محافظاً على توازن "لكل مقام مقال" بعيداً عن المساواة في الذل عدل كما يفعل (محسن)!..
صدمت من إظهار الكاتب للألفاظ النابية التى يستخدمها (مفيد) صراحة، لكنى بعد تفكر أيدته رغم الجرأة في الأسلوب، والتي أخرجتنا من ذلك الفصام فينا بين اعتيادنا سماعها وانتقادنا لقراءتها أو مشاهدتها فنياً مثلاً!..
تقطيع المشاهد بين بحث (عمر) خلف حالات الاختفاء، وبحث (ندا)  خلف مصير جثة بائعة المناديل وضعنا في جو سينمائي يصرف انتباهنا عن الحدث من منتصفه لنرى ما يوازيه من حدث آخر إذاناً بنقطة تلاقي، بالصورة التي جعلتني أتوقع أن يكون (أحمد خطاب) موهوباً أيضاً في كتابة السيناريو.
رغماً عني كنت في انتظار التقاء (عمر) و(ندا) في تلك المقبرة التي تحدث عنها في كلمات الخلفية!..
حين كشف لنا الكاتب ما يحدث من عبث في جثث ثلاجة مستشفى (مهاب)، ظننت أنه كشف لنا العقدة مبكراً ليكون استمتاعنا بحلها وليس بلغزها، لكن مع معايشتنا أكثر للشخوص وجدت أن الكاتب وضعنا في أكثر من خدعة جعلتنا نتوقع كل فترة عقدة مختلفة وكلها تشير لنفس الإسقاط في ترابط جيد جداً، لكن في النهاية لم نتوقع الحقيقة وذلك أثار إعجابي.
بدأ الكاتب يشير لبعض الاحتجاجات والتظاهرات في ميدان التحرير، لكن ما أدهشني أنه جعلها تستمر شهوراً مما أكد لي أنه لا يشير لثورة 25 يناير، وقد علمت فيما بعد أن الرواية كلها كُتبت قبل قيام الثورة بفترة، مما جعلنا أمام رؤية شاملة وواقعية جداً لحال البلد واستنتاج صائب لما سينتهي إليه.
يتلقى (عمر) توبيخاً من (طاهر) رئيس التحرير ليتوقف عما أسماه اختلاق قضية وهمية لأنه ببساطة أحد أفراد شبكة (مهاب)، الأمر الذي قرره الكاتب بشكل مباشر أيضاً كان سيفهم تلقائياً من سرد الأحداث.
يلتقي (عمر) و(ندا) حين يكتشف (عمر) أن عم (سيد) اختفى بدوره، خرج على المعاش فجأة وأخبر أسرته بسفره للعمل في الخارج، لكن بين أوراقه القليلة إيصال بتحاليل عديدة أجراها في مستشفى (مهاب)، وهو نفس الأمر الذي أثار فضول (ندا) لأن تكلفة تلك التحاليل كلها مسددة من حساب (مهاب) الخاص!...
مشهد وداع عم (سيد) لأسرته كان كسائر المشاهد حياً جداً وموجعاً لدرجة لم أستطع تخيلها لو كنت مكان ذلك البسيط. سحب دماء عم (سيد) - قبل استسلامه للذبح تماماً مثل (عايش) – توجه بي نحو استسلامنا منذ سنوات عديدة لامتصاص آخر قطرات آدميتنا الأمر الذي معه هان كل شيء... حتى الكرامة!..
بقي السؤال لفترة معلقاً، لم الذبح لو كانت تجارة في الأعضاء البشرية؟.. وتواردت إلي إجابات عديدة منها مثلاً طمعهم في نقل أعضاء حيوية تسبب الوفاة فحولوا البسطاء لديهم لبنك أعضاء أو ما شابه، لكن بقيت الحقيقة – رغم أنها فانتازيا عالية جداً – أبشع وأكثر الإسقاطات تعبيراً في الرواية.
وصلنا مع الكاتب لحال المصريين الذين تحولوا في السنوات الأخيرة لجثث تسعى، سبق وأن دُفنت حية!.. لكن، ترى هل هناك شيئاً يثير رغبتنا في استعادة الكرامة أو حتى الثأر لها، طمعاً في ألا تذهب أرواحنا سُدى؟!..
 جاء الرد حين ارتفع الكاتب بسقف الحدث حين يقرر (مهاب) ضم شريحة الأطفال اللقطاء ضمن أفاعيله المشبوهة، تحت ستار جمعية خيرية لرعايتهم. وجاء الحوار الدائر بين (سها) – شريكته-  وصديقتها التي أبدت تخوفها من أن يصل الأمر للصغار – إسقاطاً ملائماً لبداية الشرارة.....
الصغار.. الغد.. الأمل الذي ارتضينا لأجله كل هوان، حين يُمس لن يعد هناك معنى لما نعانيه، وإذن.....
"الشعب يريد إسقاط النظام"... تلك العبارة الوحيدة التي أضافها الكاتب بعد قيام الثورة وكانت آخر سطور الرواية، فبعدما يكتشف (عمر) و(ندا) و(محسن) كامل الحقيقة تكون المواجهة الأخيرة، وكانت النهاية المفتوحة فيها موفقة جداً حين اختلط علينا الأمر فيمن أطلق الرصاص على من؟!.. هل هو (محسن) الذي تدخل لنجدة صديقه و(ندا) بعد اختطاف الأخيرة؟.. أم (ندا) بنفسها التي لا تتخلى عن حمل السلاح في حقيبة يدها؟.. أم رجال (مهاب)، الذي أوصله إعجابه الشديد بـ (ندا) لفضح حقيقته البشعة؟...
  هذا لو نظرنا للنهاية من جانب الحدث البوليسي لرواية فنتازيا محكمة الخيوط، لكن مع النظر لاسقاطتها السياسة والحياتية سنجد بها نظرة مستقبلية ثاقبة، ليس فقط حتى قيام ثورة يناير، بل أيضاً وصولاً لواقعنا الذي دخلت فيه ثورتنا معركة مع قوى الفساد، لم تحسم حتى لحظة كتابة هذه السطور.
أبقانا الكاتب نحوم حول سؤال، هل نحن حقاً نمتلك القوة لنثور؟.. وحين نثور، هل نمتلك االقدرة على المحافظة على ثورتنا و إنقاذها من احتضارها بين يدينا الآن، أم أغلقنا الأعين وختمنا على القلوب وبعنا الحق من جديد للباطل؟!...


الخميس، 1 مارس 2012

فوجـا... عمرو الجندي



... قراءة في رواية "فوجا" لـ عمرو الجندي...

بكلمات قليلة غامضة - نُقشت مع آثار كف دموية بريشة (أحمد مراد) على الخلفية - جذبنا  (عمرو الجندي) إليها، وأما عن غلافها الأمامي فيتصدره... قتيل!..
هي "فوجا"، التي همست لنا - سطورها الحية جداً – في ختام سردها الشيق قائلة: "من هو ذلك الداهية الذي فعل كل شيء؟ قتل وسرق وحاول أيضاً أن يزج بمظلوم في السجن، من هو صانع السيناريو؟ من هو ذلك المخرج العظيم؟"
نعم تماماً كما توصلتم الآن، إن (عمرو الجندي) يأخذنا في رحلة إلى عالم الجريمة مع روايته الجديدة "فوجا"!.. لكن، ماهي الــ "فوجا"؟.. نعم هي مرض الهروب، لكن السؤال حقاً هنا الهروب مم؟.. ولم؟.. وإلى أين؟
  في البداية أدخلنا الكاتب إلى صوت أفكار (حسين)، ليسرد لنا معالم جريمة وقعت في ليلة صاخبة دون شعور أحد إلا هو، وبعد دقائق نجد أنفسنا أمام عدة أسئلة - نبتت في عقله- لتبقى معلقة فوق رؤوس القراء حتى مشهد النهاية في أسلوب شكسبيري لا تحصل معه على لحظة التنوير إلا بنهاية السرد. وبهذا نجد أن (الجندي) لم يتخل عن لونه الفلسفي كما يبدو للوهلة الأولى، بل اتجه بنا لنحياه ولنكتشفه في نفوسنا.
كانت الجريمة مركبة، وجاء مشهدها ومشهد اكتشاف (حسين) لها بارعاً وحياً جداً، كما لو كنا نشاهد شريطاً سينمائياً. أيضاً تصوير حديثه لنفسه متقناً جداً بكل ما انتابه من توتر فجر الكثير من التساؤلات في نفسه عن نفسه.
في الرواية هناك ثلاث أصوات تنقل لنا الحدث، (حسين) الذي أؤيد بشدة توقفه عن السرد فور وقوع الجريمة, تلاه صوت الراوي الذي يلاحق الأحداث ويرويها بعيون كل الشخصيات حتى ولو تباينت رؤاهم، مما أفاد الغموض المطلوب في الرواية، وأخيراً صوت (عمرو الجندي) نفسه في تحليله الخارج عن سياق الأحداث، والذي أشعرني أنني أشاهد أحد كهنة (آمون) أثناء حكيه لقصة التاسوع الإلهي الشهيرة، لكن بقدر ما كان هذا ممتعاً بقدر ما شعرت أنه بلا داعي خاصة مع لحظات المصارحة مع النفس التي انتابت كل الشخصيات ضمن الأحداث بالفعل، فكان يكفي أحد الأمرين.
قابلت العديد من التراكيب اللفظية غير المعتادة، كأن يقول (يقدح زناد الأمان).. أو (ينحرها ألف مرة).. أو (تجشأ الخوف)، ورغم أنها خدمت غموض الحدث لكن كثرة استخدام الكاتب لها أربكني أحياناً.
في نهاية الفصل الثاني نوه الكاتب عن أذان الفجر، فجاءت تلاوته لنص الأذان زائداً في غير فائدة لختام المشهد، وعلى العكس كان أفضل لو فاجئنا بنص الأذان دون مقدمات.
في نهاية هذا الفصل كان الكاتب قد استعرض لنا كل الشخوص بما جعل لدينا يقيناً أن كلها متورطة في الجريمة بصورة ما، وبقينا نؤكد وننفي ونعيد ترتيب كيفية تورطهم – كما نفعل في قطع البازل – حتى نهاية الراوية.
"سآتي إليك في الحال، أوه بالمناسبة لقد أرسلت لك تقرير المباحث، تباً للنسيان"
جاءت تلك الجملة الحوارية في الفصل الثالث، واستوقفني كثيرا كلمة  "أوه" -  OH المخالفة لسياق حوارنا العربي فهي كلمة غربية معبرة عن الدهشة أو ما شابه، لكن ربما أتت في هذا الموضع نظراً لتأثر الكاتب بدراسته للأدب الغربي.
مشا هد التحقيقات كانت أكثر من رائعة، جذبتني لأتابعها في شغف وفي كل مشهد أتوقع فاعل أو عدة فاعلين، لأعود في المشهد التالي لأراجع أفكاري مرة أخرى!.. وبذلك نجح الكاتب جداً في إبقاء أذهاننا متيقظة على الدوام.
في الفصل الخامس تنحل الجريمة المركبة بشكل وتتعقد بآخر، فبعد أن كان لدينا قاتل لجريمة واحدة نكتشف أن القتيل مات بطريقة أخرى بخلاف ما فعل القاتل، لنعود ونبحث عمن فعل ما لم يفعله الفاعل الأول.
قُرب النهاية استعرضنا مع وكيل النيابة كل الشخوص بكل دوافعهم، لدينا قتيلين - (اسماعيل) و(كريم) - والغريب أن لدى الجميع دوافع لقتلهما، (حسين) – (صفاء) – وحتى (خالد) والجاريْن المهمشين.
لحظة!.. تتسائلون أين تلك الـ "فوجا" في كل هذا؟!.. حسناً لقد فعلت مثلكم تماماً ليجيبني (حسين) في الفصل قبل الأخير حين بدأت تتكشف له حقيقة "فوجيته" وصدق مردودها على نفسه،
في الفصل الأخير أشار الكاتب لأحد الإجراءات القانونية التي اتخذتها (صفاء) زوجة (اسماعيل) بأنه "إعلان وراثة" واللفظ القانوني السليم هو "إعلام وراثة".. والله أعلم.
في النهاية وجدتني مستمتعة جداً بما قرأت، خاصة بعد أن اتجه (عمرو الجندي) للتعبير عن فلسفته الخاصة بشكل حياتي أكثر، قد يظنه البعض تخلياً عن رمزيته غير أنها كامنة دائماً ها هنا، في مشهد ما أو جملة ما أو..... جريمة ما!


الخميس، 25 نوفمبر 2010

"سراج الدين" في موكب عزرائيل


"موكب عزرائيل"!.. يبدو عنوانًا كئيبًا منفرًا، لكنه الأنسب للحالة التي تتخلل الرواية في تأرجح بين اليأس والأمل، فالكاتب هنا - رغم قتامة العنوان - يبث في نفوسنا الأمل، وإن كان مقرونًا بإيماننا نحن به.
الرواية للكاتب الشاب (سامي سراج الدين)، من إصدار دار "أكتب" صيف 2010، وتصميم غلافها للفنان الشاب (عبد الرحمن حافظ) الذي عكس حالة الرواية بأكثر من التعبير المباشر عن اسمها..
"هكذا يرى الناس الحياة من على أرض بلادنا، مجرد خيوط متشابكة يبحثون من خلالها على ثغرة ينفذون منها.. فلا يجدون. منهم من يبحث عنها في خطب المشايخ.. ومنهم من يبحث عنها في قصة حياة جيفارا.. ومنهم من يبحث عنها في كتاب هتلر، بل وأغلبهم قد يأس من البحث عن تلك الثغرة ووفر جهده للبحث عن قطعة خبز في سلة مهملات، أو في جيوب الآخرين... هذه هي بلادنا".
تلك العبارة على الغلاف الخلفي للرواية، هي في الحقيقة عبارة بلاغية دقيقة تمثل مختلف التوجهات المتخبطة لشخوص الرواية، والتي لا تنتهجها إلا طمعًا في معيشة آدمية.. وغالبًا لا تفلح.
في غروب مأساوي نبدأ.. تلفظ (شمس) أنفاسها على يدي (إبراهيم)، بعدها يعود بنا (سامي) في "فلاش باك" ليستعرض حياتهما حتى لحظة الحدث، متخللًا ذلك بالتاريخ السياسي لبلدهم، والذي من الممكن أن يكون أي من بلادنا دون استهداف معين ولكن بإسقاط واقعي.
وعلى اعتبار أن أغلب قلوب البشر "كاروهات".. "كاروه" أبيض و"كاروه" أسود وليس بياضًا أو سوادًا مطلقًا، نجد (سامي) هنا جعلنا نعي بمهارة شديدة تلك النسبية البشرية في شخوصه. فليس من بينها قديسًا أو حتى شيطانًا.
فـ (شمس)، كما الحياة.. كما الوطن.. وديعة وحانية ومحتوية، حتى لـ (إبراهيم) المنحرف نسبيًّا رغمًا عنه، وفي احتوائها لانحرافه "كاروه" أسود في صفحتها.
الأبناء والإخوة، شعرت بهم شخوص لملء الفراغات المنطقية، فلم تستغل في السرد جيدًا بينما كانت يمكن أن تعكس أحداثًا أغزر للتاريخ الذي رسمه (سامي) لتلك البلاد.
الأم، ناغز الضمير الوحيد لـ (إبراهيم) فهي - في ندرة حقيقية وخيالية - بيضاء نقية بلا أي "كاروهات".
العم (رشاد)، تشعره أسود من حياته البوهيمية - كرسام - والمبخرة بأدخنة الحشيش، لكنه في الحقيقة مثال للمقهور بواقع يدركه - بحكم ثقافته - وتمنى ألا يفعل.
الزملاء، يمثلون الاتجاهات المتخبطة في المجتمع. فالبعض ديني والبعض الآخر اشتراكي أو رأسمالي، والكثيرين بلا اتجاه سوى لقمة العيش، وهؤلاء هم متعادلي "الكاروهات"، أبيضها وأسودها.
(إبراهيم) و(رضوان)، وجهان لعملة واحدة.. طرفي النقيض.. ولو تبادلا الأماكن والظروف لانتهج كل منهما ما لام عليه الآخر.
(إبراهيم) مواطن بسيط محور الرواية بظروفه وهمومه وتبعات تغيرات المجتمع عليه التي حولته لنموذج سلبي اعتيادي، شخصية تُؤثر "المشي جنب الحيط" طالما أن أهله وبيته بعيدين عن الأحداث، وتلك أول "كاروهة" سوداء في نقائه، تتكون بداخله حسرة لأنه كسر إطار المثالية التي عاش عليها أبيه وتتندر بها أمه في كل مناسبة، لكنه ماذا يفعل لمواجهة أعباء المعيشة سوى أن يترك درج مكتبه "مواربًا" لحساب الأوراق المستعجلة؟!.. وتبقى تلك هي "الكاروهة" السوداء الأخرى في حياته والتي يواجه بها (رضوان) في تبجح لأنه المتسبب بها، ولو حسبنا النتيجة على طريقة أهداف مباريات كرة القدم نجدها واحد إلى صفر لصالح "الكاروهات" البيضاء، حيث اصطبغت السلبية بشجاعة (إبراهيم) في النهاية بالمواجهة.
(رضوان) رئيس البلاد، في الأساس ضابط جيش صارم.. ملتزم.. نقي السريرة وذو مبدأ، حتى تقلد الكرسي فأصبح كل هذا مجرد لمحات تظهر منه فقط تحت وطأة الضمير أو الخوف من ثورة الناس.
عرض (سامي) في تفصيل للتاريخ السياسي للبلاد بشكل رائع من خلال تاريخ حياة (رضوان) نفسه، فأصبح السرد التقديمي في بداية الرواية من وجهة نظري زائدًا خاصة أن به فراغات امتلأت فيما بعد من خلال الحديث عن (رضوان).
تحولت حياة (رضوان) للنقيض من حياة (إبراهيم)، سواد من استبداد وبطش وقهر فرضوا عليه قبل أن يفرضهم هو على شعبه، لا يتخلله سوى بقعة نقية وحيدة ومهزوزة تمثلت في خوفه الدائم من الخالق وإن لم يستطع خوفه هذا أن يردعه، ربما لقوة التيار الفاسد الغارق فيه حتى النخاع.
يتجاهل طرقات الضمير الوهنة المختفية خلف غضبه المكبوت لفقده السيطرة على الفساد والفاسدين حتى أضحى منهم ومثلهم، حتى أنه يكون المتسبب - بموكبه البذخ - في مأساة الغروب في بداية العمل!
ترحل (شمس) لتتكشف بعدها كل الوجوه، يترك (إبراهيم) سلبيته.. ويترك (رضوان) بطشه ويعيش لفترة في رعب من شعبه الذي بدأ صوته في الارتفاع كما فعل (إبراهيم) وفعل من حوله فيما بعد....
(إبراهيم).. لا يعرف كيفية التعبير فيما يبدو من كثرة تعوده الصمت، ولا يعرف أي التيارات أصح.. الاشتراكي أم الرأسمالي أم الديني أم النفعي، ويحاول تجربة الجميع، لكنه أضحى إيجابيًّا بأية حال.
(رضوان).. يدفع ثمن البطش وحده، رغم أنه ليس المتسبب به وحيدًا. يكتب بدمه نهاية لحكمه الفاسد، دون أن يدري الشعب هل من يليه لن يُفسد؟!..
جعلنا (سامي) - في اقتدار - نتعاطف مع الطرفين، الظالم والمظلوم حين أوغل بداخلنا شعورًا أن لو كان أحدهما في موضع الآخر لانتهج نفس سيرته الأولى، إذن...
تنتهي المباراة بينهما للتعادل السلبي، ولكن يبقى سؤال...
إلى متى سنبقى نشاهد؟.. فالحق بيّن والباطل بيّن، وأيضًا بيّنة كل التيارات التي تحاول جاهدة إصلاح الواقع، علينا فقط أن نعتنق أحدها كي لا نرحل موقنين من ظلمنا لأنفسنا كـ (رضوان)، أو غير مدركين لحقيقتها كـ (شمس)، أو نحيا بلا هدف كـ (إبراهيم).

"محمود منسي" إنسان.. بدائي - 2



(2)

بدأنا في الحلقة الماضية التعرض للمجموعة القصصية الجديدة للكاتب الشاب (محمود منسي)، "مشاهد مختلفة من حياة إنسان بدائي"، الصادرة عن دار "هفن" للترجمة والنشر.
وكنا توقفنا في تأهب عند القصة صاحبة عنوان المجموعة، "مشاهد مختلفة من حياة إنسان بدائي". بدت لي كتخاريف مهووسة، لكن في كل مشاهدها انعكاس لمتناقضات نحياها في كل شيء.. الغريزة والرغبة السرية.. عدالة الحُكام وتحولهم بلا مبالاتهم لأحادي القرن!..
بين الدين والتدين وحتى في هذا التناقض بين التخاطب بالألسنة أو "بالعافية".
في "موس حلاقة" تساءلت، أليس في الحب وفاء سوى مع الرحيل؟!.. تفاصيل القصة خفيفة الحركة كعادة (منسي)، لكن أن يسلك المحب أمراً لمجرد الوفاء لحبيبته وفي النهاية ينتظر الموت مبتسماً... نهاية قاتمة رغم تناسب تلك القتامة مع وفاءه لها.
ونراه بعد فترة يقتحم عالم الفتيات في "مائل للحرارة"، يتحدث بشعورهم ويدخلنا أيضاً بكامل ارادتنا حتى نصل لصدماته المعتادة بين السطور حين تحاول الفتاة استشفاف فكر رجلها من خلال مذكرات أخيها الخاصة حول حبيبته... أو رفيقته إن جاز التعبير.
وابتسم رغماً عني اعجاباً، فليست كل عناوين (منسي) غريبة بقدر ما هي مناسبة للنص. لكن هنا يلخص اليوم بأكمله في "ملخص ما تم نشره" في تلك الحكمة التي نقرأها على نتائج التقويم يومياً!...
وبالطبع تجاهل مواقيت الصلاة يدل على تركيبة الشخصية بشكل بسيط ونافذ في آن واحد. شخص لا مبالي لا يتخذ أي فعل إيجابي أبداً، ومن بين زوجة مرتبة وحبيبة متلهفة يرحل بقرار أول ووحيد.
"أحادي القرن"، امتهان خرافي للإنسانية تسخر منه في النهاية رغم الألم، فهي ستبقي إنسانية!
ولا أدرى أكان علي الابتسام في "هي وهي" لتدافع المعاني بشكل جميل، أم أحزن..
على أي حال قد مثل (منسي) جيداً من بيده سلطة يستخدمها لأغراضه هو، ومن منطلق "حاميها حراميها" لا يوقفها رغم فاحشتها بل يتركها تمارس رذيلتها طالما... معه!
ما أصابني هنا التأمل.. "بنحب ربنا".. مشاعر طفل مسيحي يتساءل عن جدوى الديانات إن كانت تفرقنا- وهي في حقيقتها لا تفعل بل نحن نفعل. وتساءله البريء:
"ليه ما خلوناش كلنا نحب ربنا ونخش الجنة؟"
يواجهنا كلنا فيه، كلا الديانتين "بتحب ربنا"... فلماذا التفرقة؟!
وفي "قطار"، رغم مساعدته لها على اللحاق بالهدف وتعرضه هو للسقوط كي تعلو هي وتلحق هدفها إلا أنه حين يسقط تطأه لتصل رغم ذلك للهدف من دونه.
في النهاية شعرت في (محمود منسي)، ثورة كامنة، وأدلل عليها بتركيزه فى مواضع كثيرة على حالات اللامبالاة بمختلف صورها. وفي المجمل استمتعت بخفة أقاصيصه وذكائها.
وإلى عمل جديد أستودعكم الله.