الأحد، 21 نوفمبر 2010

أحلامه ليست شكسبيرية.. فحسب -3


(3)

عدنا لنختتم جولتنا البديعة بين أسطر ديوان "أحلام شكسبيرية" للشاعر (شعبان يوسف) الصادر عن دار "هفن" للترجمة والنشر। تستمر معنا اللمحات الرومانسية- التي هي فيما يبدو سمة شاعرنا، فنراه في "كادت॥ وكدت" يشرك حتى الجماد في لحظات الهوى، فها هو ذا عاشق متوثب الحس في رقة وتهور يراها ملاكاً.. طيفاً منيراً يغتر به حتى مقعدها الجالسة عليه فـ "يتطاوس" خيلائاً. وحواراً بينه وبينها يشكو لها فيه أنه فقد الكلم في حضرتها لكنها تشجعه على المضي شعراً:

قالت: أنت الآن صديقي
أنت الآن، وبعد الآن رفيقي
قالت: اكتب
وحين نطق لا يمنحها فرصاً إلا لهواه:
قلت: سأفتح في الجدران الصلبة باباً
حتى يدخل نورك
حتى تشرق شمسك،
حتى أقدر أن أستقبل بعض جمالك
حتى أشعل تحت سمائك.. روحي
شهقت!
قلت: أرتل اسمك

تطالبه حينها أن يتريث وأن يبقي عند الباب صديقاً، فيجيب أنه سيحاول ويتابع غير مقتنع:

أو سأعالج نفسي
قالت:اهدأ
واعلم أن جمالاً ينهض في الأرواح ويبقي
شالت كل غيوم كادت تهطل
نهضت
لتحسم لحظة هوى مشتعلة بكلمات من أرق ما يكون

أما في "تهويمات" فقد احترت متوقفة عند عدة مقاطع لا يمكنني نقلها جميعاً، فكلها بديعة। يصف حال ناسك متأمل يقص الماضي في حماسة ينهمر دمعه معها، ناسك حماسي آمل في الغد وينتظره ويصرخ:

أنت الأمل الطالع من شرفات الكون الواسع
أنت (تلمين شتاتي
وتصبين الموسيقي الرحبة في فوضى ذاتي)

"أنتِ" المخاطبة هنا اتضح لي أنها شمس الغد، التي يخاطبها في هيام عاشق لا يتوفر عادة في النُساك، فلا ندري من تلك الشمس المقصودة:

أعرف أن بخور هواك يصعد- حتماً-
في أرجاء المنزل
أعرف أن صفاتك يصعب أن أجمعها
أن أسردها
أن ألضمها في مسبحة الروح وأسمو

"مسبحة الروح" لفظ منحني شعوراً بمدى قداستها لديه، خاصة وهو يختتم حديثه عنها بسر الناسك المكنون بقلبه:

أعرف أنك روح الروح
أنك شمس تسطع أبداً أبدا
بين ضلوع السر الكامن
في أنحاء الدنيا
أنك فيض ضياء
يطلع في شهقت البوح

ويتركنا الشاعر ها هنا لحالة تأمل شبيهة بتأملات ناسكه في البداية.
وتستمر حالات الرومانسية بعيداً- أو ربما أقرب من تصوري- عن الرمزية. ففي "جنون الباليه" يدخل المحب عالم محبوبته الساحر، مندهشاً.. متلعثماً.. مفتوناً بها.
يتساءل لم هو على هذا التردد والخشية في حضرتها!

أقاوم نفسي.. وعيني.. كل أصابع قلبي
أراقب بعض جنون يقلقني،
فلا تقدر العين أن تتأملها في ثباتٍ
وأسأل نفسي:
أيعقل أن أتلعثم في كل حرفٍ؟

هنا أيضاً جاء لفظ جذب قلمي من أذنيه- كحال كل قصيدة في هذا الديوان، فحين قال "أصابع قلبي" شعرتها حبيبة من نور متصوراً لقلبه أنامل مترددة في مسها الوهمي।
ورغماً عنه في النهاية تتراص كل فضائلها على شفتيه:

إنها فتنة خالصة
ومحض شعورٍ
محض حياة
أنا في غياب
أنا في حضور
أنا أتنفس- فعلاً-
وأهذي بكل فضائلها

و"حين يحتاج القلب للنور" يجده بين يدي صديقته- والعقدة على الشاعر هنا- بمعنى الصداقة حقاً، أذنين تتلقيان ثرثرته مهما كانت وكفين تنام روحه بينهما وتشفي جراحه لمساتهما:

أنا يا صديق فؤادي،
سأجلس بين يديك
وأسمع كل حديثك لي..
وتتابع في أبيات أُخر:
أنا سأربت فوق يديك
وأمسح دموع تسيل على وجهك
المتجمد في البرد

وفي النهاية يقبل هو العطية الرقيقة بعيداً عن الأفكار المقسمة لأفكار رجولية وأخرى أنثوية، فقط روحان تلاقيا وليسا مجرد رجل وامرأة:

كوني صديقة عمري
وأختاً لروحي
ومتكأ أطمئن إليه
أنا يا رفيقة قلبي
في حاجة لهوائك
في حاجة لبهائك
في حاجة لضياء يشع صباحاً
وها ساعدي سوف يشتد
حين يهيم ويسكن تحت سمائي

وفي ختام الديوان يستعين أ. (شعبان) بجزء من مشاهد "هاملت":

وأهتف: (اغفري لي موعظتي..
في هذا الزمن المنتفخ الأجوف
لابد للفضيلة نفسها أن تطلب من الرذيلة الغفران،
بل تنحني وتسأل ما الإذن لتكون في خدمتها)

يقص لحظات عجيبة بين اثنين تلاقيا صدفة رغم سنوات طوال من المعرفة، كانا كأنما يلتقيان للمرة الأولى.. كانت المفاجأة!لم يكونا حبيبين ولا صديقين ولا أي شيء سوى تفتح نهار على ما هو جديد. صراع بين فعل الفضيلة والرذيلة فيما يحدث- الذي يبدو أنه رمزية القصيدة هنا- فمتى الفعل يكون أو لا يكون إثماً؟!.. ذكرني بجملة "هاملت" الشهيرة: أكون أو لا أكون تلك هي المسألة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق